«عم عاشور بتاع البليلة» قصة قصيرة للكاتب الدكتور صلاح البسيوني
«عم عاشور بتاع البليلة» قصة قصيرة للكاتب الدكتور صلاح البسيوني


«عم عاشور بتاع البليلة».. قصة قصيرة للكاتب الدكتور صلاح البسيوني

صفوت ناصف

الإثنين، 04 مارس 2024 - 08:50 م

مُنْذُ أَنْ وَعَيْتُ خُطُوَاتِي فِي حَارَتِنَا بِحَيِّ اَلْبَسَاتِينِ وَلَا أَعْرِفُ لَهُ اِسْمًا سِوًى ( عَمُّ عَاشُورْ بِتَاعْ اَلْبُلَيْلَة ) .

رَجُلُ مَشِيبِ حَفْرِ اَلزَّمَانِ عَلَى وَجْهِهِ دُرُوبَ وَأَخَادِيدَ وَتُطِلّ مِنْ عَيْنَيْهِ لَحْظَةَ اَلْغُرُوبِ وَتُثْقِلُ خُطُوَاتِهِ وَهُوَ يَدْفَعُ أَمَامَهُ عَرَبَتُهُ اَلْخَشَبِيَّةُ اَلَّتِي يَسْرَحُ بِهَا كُلُّ يَوْمٍ لِبَيْعِ اَلْبُلَيْلَة لِأَطْفَالِ وَكِبَارِ اَلْحَارَةِ.

وَعَلَى اَلرَّغْمِ مِمَّا يَتَكَبَّدُهُ مِنْ مَشَاقَّ يَوْمِيَّةٍ فِي اَلْحُصُولِ عَلَى لُقْمَةِ عَيْشِهِ إِلَّا أَنَّنِي لَمْ أَذْكُرْهُ يَوْمًا مُتَجَهِّمًا أَوْ عَابِثًا أَوْ مُتَذَمِّرًا.. بَلْ كَانَ يُقَابِلُ صُرَاخُنَا أَوْ شَقَاوَتِنَا بِابْتِسَامَةٍ هَادِئَةٍ بِهَا بَعْضُ اَلتَّعَجُّبِ لِعُجَالَتِنَا أَوْ اَلدَّعْوَةِ لِسُكُونِنَا وَأَحْيَانًا كَثِيرَةً سُخْرِيَةً مِمَّا نَحْنُ فِيهِ وَمِمَّا سَوْفَ نَكُون عَلَيْه! .

 

وَتَمُرَّ اَلْأَيَّامُ وَنَكْبُرُ وَعَمِّ عَاشُورْ بِتَاعْ اَلْبُلَيْلَة كَمَا عَهِدْنَاهُ كَبِير مَشِيبِ بُطْءِ اَلْخُطَى وَمَا زَادَتْهُ اَلْأَيَّامُ سِوَى بُطْءٍ فِي حَرَكَتِهِ وَوَهْنٌ فِي صَوْتِهِ حِينَ يُنَادَى ( اَلْبُلَيْلَة اَلسُّخْنَةُ ) مُعْلِنًا وُصُولُهُ إِلَى حَارَتِنَا وَإِنْ كُنَّا فِي غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى هَذَا اَلنِّدَاءِ فَمَوْعِدهُ كَمَا هُوَ فِي اَلصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ اَلسَّاعَةِ اَلسَّابِعَةِ لَمْ يَتَغَيَّرْ صَيْفًا أَوْ شِتَاءٍ . . وَلَمْ تَثْنِهِ اَلسُّنُونَ وَآلَامِ اَلْعِظَامِ وَضَعْفِ اَلْبَصَرِ عَنْ اِنْتِظَامِ وُصُولِهِ فِي تِلْكَ اَلْمَوَاعِيدِ بِدِقَّةِ فِطْرِيَّةٍ وَكَأَنَّهَا سَاعَةُ مِيقَاتِ بِدَاخِلِهِ .

 

وَالْيَوْمُ عِنْدَ خُرُوجِي لِلْعَمَلِ فِي اَلصَّبَاحِ وَجَدَتْ جَمْعَ مِنْ أَهْلِ اَلْحَارَةِ عِنْدَ اَلنَّاصِيَةِ يَتَهَامَسُونَ . . فِي اَلْبِدَايَةِ لَمْ أُدْرِكْ اَلسَّبَبُ وَلَمْ أَهْتَمْ . . وَعِنْدَمَا اِقْتَرَبَتْ مِنْ اَلْمَكَانِ تَبَيَّنَتْ عَدَمَ وُجُودِ عَرَبَةٍ اَلْبُلَيْلَة وَلَا عَمَّ عَاشُورْ وَالْمَكَانِ خَالِي مِنْهُمْ . . اِقْتَرَبَتْ أَكْثَرَ فَسَمِعَتْ أَحَدَهُمْ يَقُولُ : ( لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ . . إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) وَآخَر يَتَسَاءَلُ مِنْ يَعْرِفُ أَهْلَهُ حَتَّى نَتَّصِلَ بِهُمْ ؟ وَثَالِث يُجِيب : مُنْذُ أَنْ حَضَرَ وَلَا نَعْرِفُ لَهُ أَهْلٌ سِوَى زَوْجَتِهِ . . فَهُوَ مُهَاجِرُ مِنْ اَلصَّعِيدِ هَرَبًا مِنْ اَلثَّأْرِ .

 

قَالَ شَيْخٌ هَيَّا بِنَا لِعَمَلِ مَا يُرْضِي اَللَّهُ بِالْإِشْرَافِ عَلَى إِجْرَاءَاتِ اَلْغُسْلِ وَالْجِنَازَةِ وَالدَّفْنِ فِي مَدَافِنِ اَلصَّدَقَاتِ . . وَأَشَارَ إِلَى أَحَدِهِمْ وَقَالَ اِذْهَبْ إِلَى مَكْتَبِ اَلصِّحَّةِ لِاسْتِخْرَاجِ تَصْرِيحِ اَلدَّفْنِ . . لَعَلَّ اَللَّهَ يُثِيبُنَا عَنْهُ خَيْرًا وَيَتَغَمَّدُهُ بِرَحْمَتِهِ . . وَصَاحَ فِي صَبِيٍّ : أَطْرَقَ أُبَوِّبُ اَلْحَارَةُ وَأَبْلَغَ سُكَّانُهَا بِمَوْتِ عَمِّ عَاشُورْ بِتَاعْ اَلْبُلَيْلَة وَأَنَّ جِنَازَتَهُ سَتَشِيعُ عِنْدَ صَلَاةِ اَلظُّهْرِ مِنْ مَسْجِدِ اَلْحَيِّ . . اِنْصَرَفَ اَلْجَمْعُ . . كُلٌّ لِقَضَاءِ مَا كَلَّفَ بِهِ . . أَوْ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ فِي نَفْسِهِ . اِجْتَمَعْنَا فِي اَلْمَسْجِدِ لِلصَّلَاةِ عَلَى جُثْمَانِ عَمِّ عَاشُورْ . . بِضْعُ رِجَالٍ وَشَبَابٍ بَلْ وَأَطْفَال بِعُيُونِ دَامِعَةٍ .

 

وَخُرْجُنَا بِنَعْشِهِ وَخَلَفِهِ اَلْأَفْرَادَ اَلْقَلَائِلَ فِي طَرِيقِنَا إِلَى مَدَافِنِ حَيِّ اَلْبَسَاتِينِ اَلْقَدِيمَةِ . . وَكُلَّمَا سِرْنَا فِي شَوَارِعِ اَلْحَيِّ يَنْضَمُّ إِلَيْنَا بِضْعُ أَفْرَادٍ . . وَإِذَا بِجَمْع مِنْ كِبَارِ اَلْقَوْمِ كَمَا يَبْدُو مِنْ مَظْهَرِهِمْ يَنْضَمُّونَ إِلَى اَلْجِنَازَةِ وَرَتَّلَ مِنْ اَلسَّيَّارَاتِ تَسِيرُ خَلَفَهَا . . سَيَّارَاتٌ حُكُومِيَّةٌ تَحْمِلُ أَشْخَاص تَدُلُّ هَيْئَتَهُمْ عَلَى مَرَاكِزِهِمْ اَلْهَامَّةِ . . وَنُتَمْتِم لِبَعْضِنَا اَلْبَعْضِ سُبْحَانَ اَللَّهِ أَنَّ مُحِبِّي عَمِّ عَاشُورْ بِتَاعْ اَلْبُلَيْلَة كَثِيرُونَ ! ! كُلَّ هَؤُلَاءِ حَضَرُوا فَوْرُ سَمَاعِهِمْ نَبَأَ وَفَاتِهِ ! ! لَمْ نَكُنْ نَدْرِي أَنَّ لَهُ كُلِّ هَذِهِ اَلشَّعْبِيَّةِ وَكُلَّ هَذِهِ اَلْمَحَبَّةِ لَدَى اَلْكَمِّ اَلْهَائِلِ اَلَّذِي أَصْبَحَ يُشَكِّلُ طَابُورٌ بِطُولِ كِيلُومِتْرٍ خَلْفَ جُثْمَانِهِ سَيْرًا لِمَسَافَةَ ثَلَاثَةِ كِيلُومِتْرَاتٍ عَلَى اَلْأَقْدَامِ حَتَّى اَلْمَدَافِنِ .

 

وَصَلْنَا مَدَافِنُ اَلصَّدَقَاتِ اَلْقَدِيمَةِ بِالْحَيِّ . . وَفَتَحَ اَلْقَبْرُ وَأَنْزَلَ إِلَيْهِ اَلْمَرْحُومُ وَأَغْلَقَ بَابُهُ . . وَوَقْفُنَا صَفًّا لِنَأْخُذَ فِيهِ اَلْعَزَاءُ كَأَهْلِهِ . . وَتَقَدَّمَ إِلَيْنَا طَابُورُ اَلْحَاضِرِينَ بِدَايَةَ مِنْ أَهْلِ اَلْحَارَةِ يَلِيهِمْ مِنْ اِنْضَمَّ إِلَى اَلْجِنَازَةِ بِالطَّرِيقِ . . وَلَاحَظَتْ بَعْضَ عَلَامَاتِ اَلتَّعَجُّبِ أَوْ اَلتَّرَدُّدِ عَلَى وُجُوهِ اَلْبَعْضِ وَهُمْ يُصَافِحُونَنَا وَأَعْيُنَهُمْ تَبْحَثُ فِي اَلْمَكَانِ عَنْ آخَرِينَ .

 

إِلَى أَنَّ تَسَاءَلَ كَبِيرُهُمْ : أَيْنَ أَبْنَاءُ اَلْمَرْحُومِ وَأُخُوَّتِهِ ؟ قَلَّتْ عَلَى اَلْفَوْرِ : اَللَّهُ يَرْحَمُهُ لَا أَبْنَاءٌ لَهُ وَلَا أُخُوَّةً أَوْ أَهْلٍ . . فَقَالَ فِي تَذَمُّرٍ وَغَضَبٍ : بَلَاشِ كَلَامٍ فَارِغٍ دُهْ مِشُّ وَقْتِ اَلْخِلَافَاتِ أَوْ تَصْفِيَةِ اَلْحِسَابَاتِ . .

فَعَلَّقَتْ عَلَى كَلَامِهِ قَائِلاً: لَا خِلَافَاتٍ وَلَا حَاجَةَ عَمِّ عَاشُورْ لَمْ يُنْجِبْ وَلَا نَعْرِفُ لَهُ أَهْلٌ . . صَرَخَ : عَاشُورْ ؟ عَاشُورْ مِين ؟ قَلَّتْ : اَلْمَرْحُومُ عَمَّ عَاشُورْ بِتَاعْ اَلْبُلَيْلَة . . تَرَاجُعُ اَلرَّجُلِ اَلْهَامِّ وَسَأَلَ : أَلَيْسَتْ هَذِهِ جِنَازَةُ اَلْحَاجِّ عَبْدَ اَلْجَوَّادْ كَبِيرٍ عَائِلَةَ اَلْبُدَيْوِي وَعُضْوِ مَجْلِسِ اَلشَّعْبِ؟ صَرَخَتْ مُتَسَائِلاً: وَهَلْ تَوَفَّى؟ أَجَابَ: اَلْيَوْمُ وَجِئْنَا لِحُضُورِ دَفْنِهِ بِمَدَافِنِ اَلْبَسَاتِينِ اَلْجَدِيدَةِ! ! . قَلَّتْ: سُبْحَانَ اَللَّهِ ذَهَبَ فِي صَمْتٍ بَعْدَ عِزٍّ وَجَاهٍ . . وَذَهَبَ عَمُّ عَاشُورْ فِي عِزٍّ بَعْدَ صَمْتٍ وَنِسْيَانٍ .


الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة